التربية الإسلامية -علم القلوب - الدرس ( 14 - 57) : الحكمة ( من حديث الإسراء والمعراج ).
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1999-03-07
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
العبادة علة وجود الإنسان على سطح الأرض :
أيها الأخوة, لا زلنا في الحديث عن الحكمة؛ لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
[سورة البقرة الآية:269]
وقد ورد:
((أعطيت داود وسليمان علماً, وأعطيت إبراهيم رشده, وأعطيت موسى وهارون الفرقان والضياء, وأعطيت عيسى بن مريم البينات, وأيدته بروح القدس, وفضلت أمة موسى على عالمي زمانهم, فما الذي أعطيتني وأعطيت أمتي؟ فقال الله عز وجل: أعطيتك -يا محمد- سبعاً من المثاني, والقرآن العظيم, وأعطيت أمتك الحكمة))
[ ورد في الأثر]
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
[سورة البقرة الآية:269]
الحقيقة ورد:
((أن القرآن جمع في الفاتحة, وأن الفاتحة جمعت في (إياك نعبد وإياك نستعين))
[ورد في الأثر]
وأن علة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله.
كيف أنك إذا ذهبت إلى بلد بعيد, أرسلتك حكومتك لتنال الدكتوراه, وتعود إلى بلدك, لتحتل منصباً رفيعاً جداً, وتكرم أعلى تكريم, فإن ذهبت إلى هذا البلد البعيد, لك فيه مهمة واحدة؛ أن تدرس, وأن تأتي بالشهادة, مع أن هناك في هذا البلد آلاف النشاطات, آلاف المغريات, آلاف الصوارم, آلاف العقبات, الذي خرج من بلده ليحقق الهدف الذي من أجله خرج يبتعد عن كل الصوارم, وعن كل العقبات, ويعود, ويحمل هذه الشهادة.
فعلة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله.
كل إنسان يعاني من نقص في حياته فهذا نقص في استعانته لا في قدراته :
لكن الشيء الذي لا يصدق هو أن العبادة أمرك الله أن تستعين به عليها قال:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية:5]
وما أمرك أن تستعين به إلا ليعينك, فالعبء ليس عليك, عليك أن تسأله الإعانة.
فالإنسان واقعه لا بقدر قدراته, ولكن بقدر استعانته, والخلل الذي يعاني منه لا لنقص قدراته, ولكن لنقص استعانته, ولو طلبت من الله أن تزيح هذا الجبل من مكانه, هذا الشيء مستحيل, جبل قاسيون لو طلبت من الله أن تزيح هذا الجبل صادقاً, لأزيح الجبل.
أي لا يوجد شيء صعب, الله موجود, كل شيء بيده, وكل شيء خاضع لأمره, وأنت معه.
فكل إنسان يعاني من نقص في حياته, نقول: هذا نقص في استعانتك لا نقص في قدراتك, وكل إنسان حقق شيئاً نقول له: هذا ليس من ذكائك ولا من قدراتك, ولكن من توفيق الله لك. فإذا كان كل الأمر بيد الله؛ والله على كل شيء قدير, وسميع, وبصير, ورحيم, وودود, فما الذي يعيقك على أن تستعين به؟ أن تكون من أعلى الناس إيماناً ومن أعظم الناس أعمالاً؟
مرة ذهبت إلى تركيا, فرجل عاش في عهد أتاتورك, وأتاتورك قتْلُ إنسان أهون عنده من قتل ذبابة, كان الرجل إذا وجِد معه مصحفاً يُقتل, أي كانت الأيام التي مرت بها تركيا عصيبة في عهد أتاتورك, شيء لا يصدق, أراد كمال أتاتورك أن يلغي الدين كله, ومع ذلك عاصره عالم من علماء تركيا؛ وله دعوة كبيرة جداً, وعاش عمراً مديداً, وترك آثاراً مهمة, ولا تزال آثاره حتى الآن, وهناك ملايين يسمعونه الآن, هذا درس لا يُنسى.
لا يوجد إنسان يعيش في ظرف لا يحتمل, الظرف الذي عاشه هذا العالم يجب أن يموت مليون بالمئة, ومع ذلك سلّمه الله, ونشر دعوته, ودعوته الآن قوية جداً, ويتبعه ملايين مملينة.
فلا يوجد غير الله, الأمر كله بيده, لكن الله أمرك أن تكون حكيماً, وأن تهتدي إلى الصواب دائماً، لذلك هذه الآية:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية:5]
العبادة طاعة ومحبة والاستعانة ثقة واعتماد :
العبادة طاعة ومحبة, والاستعانة ثقة واعتماد.
يمكن أن تعتمد على إنسان, ولا تثق به, ولكنك مضطر, مثلاً هناك مشكلة كبيرة جداً, ولا يوجد غير محام واحد وكلته, فأنت مضطر أن تعتمد عليه, ولكنك لست واثقاً منه, وقد تثق بإنسان ثقة مطلقة, ولا تعتمد عليه؛ لأنك مستغن عنه, إلا أنك مع الله, إن استعنت به فأنت تثق به كل الثقة, وتعتمد عليه كل الاعتماد.
فالعبادة طاعة ومحبة, والاستعانة ثقة واعتماد, والناس حيال هذه الآية:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[سورة الفاتحة الآية:5]
الناس أربعة أقسام :
الناس أربعة أقسام: قسم عبده, واستعان به, وهؤلاء صفوة الله من خلقه.
وقسم لم يعبده, ولم يستعن به, وهؤلاء أشرار الخلق.
وقسم لضعف توحيدهم, ولضعف إيمانهم, وهذا القسم يعنينا كثيراً؛ لأنه مع شديد الأسف ينطبق على معظم المسلمين.
وقسم عبده, ولم يستعن به, لضعف توحيده؛ صلى, وصام, وغض بصره, لكن ضعُف أمام قوى البشر, فظن أن هذه القوى قوى حقيقية, وأنه لا يستطيع أن يواجهها, فعبدهم, لكن لم يغلب على يقينه أن الأمر بيد الله, فما استعان به.
من الممكن أن تستفيد كل يوم من عشرات الدروس, مما يجري في الحياة في كل شيء؛ حتى في عالم التجارة, في عالم الصناعة, في عالم الزراعة, في عالم التعامل اليومي, مثلاً العصاة كيف يدمرهم الله؟ المؤمنون كيف ينصرهم الله؟ تحرك بعقل مفتوح, بنظر ثابت, بأذن مرهفة, اسمع، أحياناً كلمة تترك أثراً كبيراً، أصغ و اسمع, بهدف أن تعرف الحقيقة, فكل إنسان ينطق بالحكمة وهو لا يشعر، و قد قال بعض العلماء في قوله تعالى:
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾
[سورة الشورى الآية:19]
لطيف؛ أي نور قلبك بالهدى, وربى جسمك بالغذاء, وأخرجك من الدنيا مع الإيمان بغير بلوى, وحرسك وأنت في لظى, حتى تسمع وترى, يرزق من يشاء الحكمة والفطنة, وهو القوي، والعزيز؛ عنايته ورعايته لا يبذلها لكل أحد.
على الإنسان أن يسعى دائماً لمعرفة الحقيقة :
قال أحد العلماء: الحكماء خلفاء الأنبياء, وليس بعد النبوة إلا الحكمة:
﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾
[سورة لقمان الآية:12]
لقمان ليس نبياً, لكن تأتي مرتبته بعد النبوة, فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
يمكن أن يتعلم الإنسان من كل شيء, أحياناً يتعلم من طائر.
سمعت عن الغربان؟ الغراب طائر ممقوت, لا أحد يحبه, لكن في مجتمع الغربان ببعض بلاد الهند, يتغذون على جوز الهند, فالغراب يحمل جوزة, ويحلق إلى مسافات شاسعة جداً, ويدعها, فتنزل على الأرض, وتنكسر, ينزل يأكلها, لكن هناك عرفاً بين الغربان: الذي حمل الجوزة, وألقاها من مكان مرتفع, لا أحد يقترب منها إلا صاحبها, وبنو البشر هناك عدوان على أملاك بعض الناس, يكون للإنسان شيء قد تعب فيه, فيأتي إنسان و يخطفه, الغربان يترفعون عن هذا.
أيضاً في عالم الحيوان هناك مواعظ كبيرة جداً, هناك حيوانات لا يمكن أن تواقع إناثها أمام الآخرين, من هؤلاء: الأسماك, الجمل, فإذا رآه أحد مع أنثى يحقد عليه.
فهناك حيوانات تترفع عن هذا, وهناك أشخاص من بني البشر يمارسون كل أنواع الغزل أمام الناس أحياناً, وهذه الظاهرة في الشام أصبحت غير معقولة!!
فلذلك: الإنسان يتعلم من حيوان أحياناً, يتعلم من قطة, أحياناً تلقي لها اللحمة, إذا ألقيتها أنت تأكلها أمامك, فإذا خطفتها, تأكلها بعيدة عنك, عندها شعور بالذنب أنها خطفت اللحمة.
فيمكن أن تتعلم من هرة, أن يتعلم الإنسان من أي حيوان؛ يتعلم الإنسان, يتعلم الطفل, يتعلم الكافر.
العبرة: أن يكون همك أن تعرف الحقيقة, أما تأخذ الحكمة بشكل مكثف, بشكل مركز, بشكل مطلق من الصحة، فمن الكتاب والسنة، يمكن أن تأخذها من أي تجربة.
فالحكماء خلفاء الأنبياء, وليس بعد النبوة إلا الحكمة.
وقالوا: الحكمة إحكام الأمور.
والحمد لله رب العالمين