خطبة الجمعة من مسجد أنس بن مالك في مونتريال, كندا: أهمية ربط علم الفقه بتزكية النفس
الجمعة, 08 فبراير, 2008
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بين الحلال و الحرام, و جعل بينهما أمورا مشتبهات من وقع فيها وقع في الحرام, و أشهد أن لا إله إلا الله, رب السموات و الأرض و ما بينهما و رب الأنام, و أشهد أن محمدا عبده و رسوله, بين ما أوحى الله إليه من الأحكام, فصلى الله عليه و على آله و صحبه الكرام,
و بعد,
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون))
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا))
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما))
تميز الفقه الإسلامي عن الأنظمة الوضعية, و القوانين البشرية بميزات عديدة, من أبرزها أنه يتعامل مع القلوب, قبل أن يتعامل مع الأبدان, فالفقه ليس مجرد إلتزامات عملية فحسب, بل هو منظومة أحكام عملية تؤدي إلى تزكية النفس, و زيادة الإيمان, و التعلق بالرحيم الرحمن. و مما يؤسف المرء, أن يرى كثيرا من المسلمين يعاملون الفقه الإسلامي معاملة التاجر الحصيف للقانون, يبحث عن أدنى إلتزاماته, و يطلب أسنى حقوقه, فإن أخبرته بحكم مسألة ما, أو قلت له بأن الرسول صلى الله عليه و سلم أمر بكذا, بحث عن أيسر الأقوال الفقهية التي تفسر هذا الحديث, أو تحمله على الندب, أو تضعفه, حرصا منه على إسقاط أكبر عدد من الإلتزامات عن عاتقيه.
هذه المعاملة, قد تصح من التاجر الحر الذي يملك زمام نفسه, و لكنها لا تصدر من عبد قد خلقه الله لعبادته, و أنعم عليه بنعمه,
فمن الذي أنعم علينا بالهواء الذي نستنشقه صباح مساء؟
و من الذي أعطانا هذه الأبدان السوية الصحيحة؟
و من الذي أطعمنا من جوع و آمننا من خوف؟
تيقن يا أخي المسلم,
أنك ملك لله !
ليس لك من الأمر شيء, و ما أنت بالنسبة لهذا الكون إلا حلقة في فناة, بل أقل.
لا ينكر على المرء حب التعلم, و حب معرفة التدرج في الأحكام التكليفية الفقهية, بل هذا من الخير الذي اعتنى علماؤنا بتدريسه, و لكننا ننكر أيما إنكار على من يستفسر و يستفصل ليس لشيء إلا لتخفيف العبىء عن نفسه, و للبحث عن فتحات يستطيع على إثرها أن يُخرج نفسه من التزامات كثيرة, و لكنه مع ذلك ما غر إلا نفسه, فإن الله لا يخدع و لا يخادع.
قال تعالى: ((إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم ...))
و قال تعالى: ((يخادعون الله و الذين آمنوا و ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون))
فتتبع الرخص في كل شيء مذموم شرعا, بل قد نقل الإمام ابن عبد البر رحمه الله الإجماع على تحريم تتبع الرخص, و قد اختلف العلماء في الحكم بتفسيقه, فمنهم من فسقه كالإمام أحمد, و منهم من لم يفسقه كالشيخ الدهلوي في كتابه عقد الجيد.
و بغض النظر عن التقعيد لهذه المسألة تقعيدا نظريا دقيقا, فإن المراد من هذا الكلام أن ننأى بأنفسنا عن معاملة الفقه الإسلامي معاملة ميكااتق اللهية, بل علينا أن نعامل الفقه بالقلب و القالب, فهو ليس من علوم الدنيا فحسب, بل هو من علوم الدنيا التي تهدي إلى طريق النجاة في الآخرة بإذن الله.
و للأسف أيضا, نجد أن التعريف المعاصر للفقه يعرف الفقه تعريفا منطقيا سليما, و لكنه لا يذكر ثمرة الفقه, فالفقه في العرف المعاصر هو: معرفة الأحكام العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية, و لكن يبقى السؤال الجوهر: لماذا نتعلم هذه الأحكام العملية؟
نتعلم هذه الأحكام العملية لأنها هي التي تدلنا على الطريق إلى الله, فهي من هذه الجهة وسيلة و ليست غاية, فليست غاية الإنسان أن يعلم عدد الصلوات في اليوم فحسب, بل يعلمها ليطبقها, و يطبقها لينال مرضاة الله, و ليزكي نفسه و قلبه, فهذا جوهر معنى الفقه و أثره الذي لا بد أن يعلم.
قال الإمام العقبلي رحمه الله عندما تحدث عن الفقه و الفقيه: ((فإني أرى هذا الإسم قد كثر المتسمون به من عامة الناس وكافتهم وما ذاك إلا لأن البصائر قد عشيت والأفهام قد صدئت وابهمت عن معنى الفقه ما هو والفقيه من هو فهم يعولون على الإسم دون المعنى وعلى المنظر دون الجوهر)).
و قال مجاهد رحمه الله: ((إنما الفقيه من يخاف الله)).
و تأمل يا أخي المسلم قوله صلى الله عليه و سلم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)), فهل الخيرية منوطة فقط بفهم و تعلم أحكام الدين؟ أم أن هناك نكتة علمية في هذا الحديث, مفهومة لا منطوقة, تقتضي أن الخيرية منوطة بمن فقه و عمل, لا من فقه فقط, فالعلم الشرعي كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله ((إذا لم ينفع ضر)), و لا يضر إلا بتغييب جانبه العملي, و قد استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من علم لا ينفع.
و قد تكلم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بكلام جميل في هذا المعني, حيث قال: ((إن الفقه ليس بكثرة السرد وسعة الهدر وكثرة الرواية وإنما الفقه خشية الله عز وجل))
فمن المشاكل التي نعاني منها في الأمة الإسلامية اليوم أن هناك انفصام بين علم الفقه و تزكية النفس, فهناك من يأخذ العلم ليل نهار, فيقرأ, و يكتب, و يحفظ, و ينصت, و لكنه مع ذلك لا يحرص أبدا على العمل بما تعلم, و يعامل هذا العلم كأي علم أكاديمي آخر, فهذا شابه اليهود من جهة أنه علم و لم يعمل.
و من الناس من يقول دع عنك العلم, و انشغل بالعمل, فينصرف عن التعلم, و ينشغل بالعبادة, فينكب عليها بكل جهده, و لكن, على أي بصيرة عبد الله؟ و من أين استقى كيفية أداء هذه العبادات إن لم يتعلمها من الوحيين و من كلام أهل العلم؟ فمن فعل هذا شابه النصارى من جهة أنه عمل بغير علم, و قد قال تعالى: ((اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم)) و هم اليهود ((و لا الضالين)) و هم النصارى, كما قال ذلك النبي صلى الله عليه و سلم, فيما رواه عنه الإمام الترمذي رحمه الله.
فنحن أمة وسط, لا نفرِط في جانب العلم على حساب العمل, و لا العكس, بل نعلم لنزكي أنفسنا, و نسعى لرفع درجاتنا أمام الرب جل و علا.
و قال الحسن البصري رحمه الله: ((كان الرجل إذا طلب بابا من العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده وصلاته وبدنه وإن كان الرجل ليطلب الباب من العلم فلهو خير له من الدنيا وما فيها)).
و إن أردت يا أخي المسلم, أن ترى هذا الأمر على حقيقته, فما عليك إلا أن ترى منهج القرآن في تعليم الأحكام, فلم يأت القرآن بأحكام جلدة فحسب, فالقرآن كثيرا ما يربط بين آيات الأحكام و الوعظ و الحث على العمل, و لنأخذ بعض الأمثلة على عجالة:
المثال الأول: آيات الميراث في سورة النساء, فقال تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ...)), و هي آياتان طويلتان, بدأ الله فيها بتبيين فروض الورثة من الابن, و الابنة, و الأب, و الأم إلى آخره, ثم ختم هذه الأحكام بآيتين وعظيتين تحث على العمل, فقال تعالى: ((تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم * و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين)).
قال ابن عباس في قوله تعالى: ((تلك حدود الله)): ((يريد ما حد الله من فرائضه في الميراث ومن يطع الله ورسوله في شأن المواريث يدخله جنات)).
فبعد أن بين الله عز و جل بعض أحكام الميراث, ذكر الباعث على الامتثال, و هو نيل مرضات الله و دخول الجنان, و ذكر الزاجر عن العصيان, و هو تعدي حدود الله و دخول النار.
المثال الثاني: قوله تعالى: ((و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه و لا تتخذوا آيات الله هزوا و اذكروا نعمت الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به و اتقوا الله و اعلموا أن الله بكل شيء عليم)).
و سبب نزول هذه الآية كما قال ابن عباس رضي الله عنه أن الرجل كان: ((يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها يفعل ذلك يضارها ويعضلها بذلك فنزلت هذه الآية))اهـ.
فهذه الآية تستخدم أسلوبين من أساليب الوعظ لتنهى عن هذا الفعل:
الأول: أنها تشعر القارىء لها بالحياء و الشكر لله تعالى, و ذلك في قوله تعالى: ((و اذكروا نعمت الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به)), فمن تفكر في هذا الجزء من الآية تذكر فضل الله عليه, و استحى من أن يعصيه, و شكر لله فضله.
الثاني: أنها تشعر القارىء لها بالخوف و الحذر, و ذلك قوله تعالى: ((و اتقوا الله و أعلموا أن الله بكل شيء عليم)), فلن يخفى على من يعلم كل شيء ظلم الظالمين, و عدوان المعتدين, فلذلك ينبغي على من فكر في فعل هذا الفعل المحرم أن يتقي الله لأن الله بكل شيء عليم.
فأبدعت هذه الآية الكريمة في إيصال الحكم الشرعي, بالإضافة إلى ذكر سببين يقتضيا الكف و الإعراض عن اقتراف هذا المحرم.
فتبين من هذين المثلين أسلوب القرآن في عرض الفقه, و منهجه في التعليم و التربية, فجمع بين تبيين الأحكام ببلاغة و فصاحة, و ذكر البواعث على العمل, و الزواجر التي تجعل الإنسان يكف عن الزلل, فمنهج القرآن منهج وسط, جمع بين إيصال العلم النافع, و تزكية القلب, فهلم بنا إلى طريق العلم و العمل, فقد قال الناظم:
من طلب العلم احتسابا و ابتغى رضا العليم فاز بالذي ابتغى
و من به نهج المباهات سلك و ظن نفسه على خير هلك
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين, فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
خطبها
حامد بن محمد هرساني
في مسجد أنس بن مالك
مونتريال, كندا